تجميل المذابح- حرب الذاكرة وكيف نحمي الحقيقة في غزة؟

عندما تنتهي المجزرة البشعة وتكتمل الإبادة الجماعية المروعة، يحين الوقت لطمس آثار الجريمة الشنيعة، وتطهير الأيدي الملطخة بالدماء الزكية، وإخفاء وجوه القتلة المتلطخة بالعار تحت طبقات سميكة من مساحيق التجميل الزائفة.
هذه هي الاستراتيجية الخبيثة التي دأب الغرب على اتباعها على مر القرون الماضية في تعامله مع المذابح المتواصلة في مختلف أنحاء المعمورة، منذ برع في تطوير أدوات القتل والتدمير الشامل.
لقد فتكت قوى الاستعمار الغربي بمئات الملايين من الأبرياء العزل في شتى أصقاع الأرض، وأبادت شعوبًا بأكملها في قارات أمريكا وآسيا وأفريقيا. ومع ذلك، نجح ببراعة في الترويج لوهم مفاده أنه حامل لواء الإنسانية والقيم النبيلة، وقيم الإخاء والعدل والمساواة.
لقد احتل بقوة السلاح وسفك الدماء أغلب دول العالم، وكرس صورة زائفة بأنه المدافع الأكبر عن الحرية والتحرير. مارس استبدادًا همجيًا، وساند الطغاة الفاسدين في أصقاع المعمورة، ثم احتكر الحديث باسم الديمقراطية وحقوق الأقليات والمستضعفين المقهورين.
على مدار عقود مديدة، سارت إسرائيل على الدرب الدموي الذي رسمه الغرب، فارتكبت المذابح المروعة، ثم عمدت إلى تشويه الحقائق وتزويرها لتبدو في صورة حمل وديع تحيط به الذئاب الشرسة المفترسة. استولت على أرض شعب بأكمله بعد قتله وتهجيره وتشريده، ثم روجت كذبة سخيفة مفادها أن اليهود شعب بلا أرض يعمرون أرضًا خالية من السكان.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، ارتكبت إسرائيل واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، ومما لا شك فيه أنها ستسعى جاهدة إلى تجميل صورتها البشعة، وتشويه إدراك العالم للمذبحة، ومحاولة فرض النسيان عليها. وسوف يساعدها في ذلك خبراء متمرسون في فن التلاعب، ومتخصصون في تزييف الوعي وتضليله، وذلك بمشاركة جيش من الصحف والقنوات العالمية التي يمتلكونها ويسيطرون عليها، وفرقة هوليوود التي يهيمنون عليها، وكتائب من الشخصيات العامة السياسية والأدبية والفنية الذين ترتبط مصالحهم بها ارتباطًا وثيقًا.
إن الوعي بمخاطر تجميل المذابح المروعة، ومنع الإفلات من العقاب، ومقاومة النسيان، يتطلب عملًا دؤوبًا ومنظمًا على جبهات متعددة. فالحرب على الذاكرة لا تقل أهمية عن الحرب على الأرض. ومن أجل الحفاظ على الحقيقة الساطعة، والحيلولة دون دفن الجرائم في مستنقع النسيان الآسن، يجب اتخاذ إجراءات جوهرية وأساسية، وهي:
أولًا: توثيق المجازر وأرشفتها
وفقًا لإحصاءات المكتب الحكومي في غزة، ارتكبت إسرائيل في غضون أشهر معدودة من "طوفان الأقصى" آلاف المذابح المروعة، أسفرت عن استشهاد عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، وإصابة أضعاف هذا العدد بجروح بالغة. النسبة الغالبة من ضحايا المجازر الإسرائيلية هم من الأطفال والنساء؛ فإسرائيل تقتل أطفالًا كل ساعة منذ بدء الإبادة الوحشية.
يُملي الضمير الإنساني الحي على كل إنسان حر في هذا العالم أن يساهم بكل ما أوتي من قوة في توثيق هذه المجازر البشعة، وأرشفتها بشكل منهجي دقيق، وإتاحة سجلاتها المفصلة بكل لغات العالم المختلفة، حتى تبقى شاهدة على هذا العصر.
من الضروري بمكان رواية قصة كل فلسطيني أزهقت روحه بنيران الاحتلال الغاشم في هذه الإبادة الجماعية المروعة. يتعين جمع كل الصور الفوتوغرافية والتسجيلات المرئية والمسموعة التي تصف وقائع المجازر بدقة متناهية، وأرشفة هذه الوثائق الثمينة، وحفظها من الضياع والعبث. كما يجب جمع السرديات الشفوية للمجازر، وتسجيلها بصورة تفصيلية، وإتاحتها للجميع.
ويمكن تأسيس فرق عمل متخصصة في إجراء مقابلات معمقة مع الناجين من المجازر، أو شهود العيان عليها، ونشر قصصهم المؤثرة، وترجمتها إلى مختلف اللغات. ويجب ألا يقتصر توثيق المجازر على حصر الضحايا الأبرياء، وحكي قصصهم المأساوية، بل يجب أن يشتمل كذلك على توثيق الجرائم نفسها، بوصف أحداثها الشنيعة، وأفعالها الدنيئة، وآثارها المدمرة، ومرتكبيها المجرمين.
من الأهمية بمكان معرفة أسماء كل من سفكوا الدماء الزكية، وأعطوا الأوامر بتنفيذ المذابح، وقدموا الدعم العسكري والمعلوماتي للاحتلال. قد نعتقد للوهلة الأولى أنه من غير الممكن محاسبة المجرمين وتحقيق العدالة الناجزة، لكن الزمن متقلب الأحوال، وما يبدو اليوم مستحيلًا، قد يكون في المستقبل القريب ممكنًا بشكل لا يمكن تصوره.
ويجب أن يعلم كل من شارك في الإبادة الجماعية أن يد العدالة ستطاله عاجلًا أو آجلًا، فالجرائم ضد الإنسانية لا تتقادم بمرور السنين. ومن الضروري أن تتاح هذه الأرشيفات بشكل إلكتروني شامل، بكل اللغات الحية، وأن يُحفَّز الأفراد العاديون على المساهمة الفعالة بما لديهم من وثائق مرئية أو مصورة في بنائها. ويجب أن تتضافر جهود الأفراد والمؤسسات الدولية في إنجاز هذا العمل النبيل، لا سيما جامعة الدول العربية، ومنظمات حقوق الإنسان المرموقة، ومنظمة العفو الدولية، ومراكز بحوث الإبادة الجماعية، وأقسام العلوم السياسية والاجتماعية في الجامعات العربية والعالمية، وغيرها من المنظمات.
ثانيًا: دراسة أساليب تزييف الوعي بالمجازر
منذ بداية إبادة غزة، مارست وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون حملة تضليل واسعة النطاق، يندى لها جبين الإنسانية جمعاء. فقد وضعت صحف عالمية مرموقة وقنوات إخبارية شهيرة معايير النزاهة والموضوعية تحت أقدامها، لأجل إخفاء حقيقة الإبادة الوحشية. واستعملت في سبيل تحقيق ذلك كمًا هائلًا من أساليب التلاعب والتزييف والتضليل الممنهج.
ومن الضروري فضح الأساليب الخبيثة التي يستعملها الاحتلال وأعوانه؛ لإخفاء الإبادة، والتقليل من شأنها، وفرض الصمت المطبق عليها، وتشويه إدراك العالم لحقيقتها. ويقع على عاتق الباحثين في العالم بأسره مسؤولية الكشف عن هذه الأساليب الدنيئة وفضحها علنًا، ومقاومتها بكل الوسائل المتاحة. ولتحقيق ذلك، من الضروري إجراء دراسات شاملة حول هذه المذابح المروعة، وحول الخطابات الإعلامية والسياسية التي صاحبتها، وأعقبتها. وفضح كل من حرضوا علنًا على ارتكابها، أو زيفوا الحقائق بشأنها.
ثالثًا: إبقاء ذاكرة الإبادة حية ومقاومة النسيان
حين تظل المجازر حية في الذاكرة الجمعية، يبقى الأمل في أن تتحقق العدالة يومًا ما، وألا تذهب الأرواح البريئة سدى وهباء منثورًا. أما المجازر التي تتلاشى من الذاكرة بفعل إستراتيجيات التلاعب والتزييف الممنهج، فإنها تضيف مجزرة جديدة إلى المجزرة الأولى، ألا وهي مجزرة النسيان الأليم. وليس هناك أبشع من ارتكاب المجازر البشعة إلا نسيانها، وغسل أيدي مرتكبيها المجرمين، وتبييض وجوههم القبيحة بعدها.
للحفاظ على ذاكرة إبادة غزة حية نابضة، يجب الاستمرار في التعريف بها على نطاق واسع، واستعمال طرق متنوعة ومبتكرة لحفظها من الضياع. يجب، من الآن فصاعدًا، العمل بدأب على تخليد ذكرى الإبادة المروعة، عن طريق إنتاج الأفلام التسجيلية الوثائقية، وإقامة معارض الصور الفوتوغرافية المؤثرة، ورسوم الجدران المعبرة، وملصقات الشوارع، واللافتات الضخمة، والأغاني الحماسية، والكتب القيمة، والأفلام السينمائية الروائية، ومقاطع الفيديو المصورة، والأعمال الأدبية المكتوبة والمصورة، وعروض صالات المتاحف، والرقص التعبيري الهادف، والموسيقى التصويرية المؤثرة، والمسرحيات الهادفة، والحكايات الشفهية المتوارثة، والألعاب الإلكترونية التفاعلية، والكتابة على الملابس، وغيرها من الوسائل المبتكرة.
يجب إدراج قضية الإبادة ضمن المقررات الدراسية والبرامج التعليمية في العالم العربي، وفي مختلف أنحاء العالم، بوصفها واحدة من أشنع جرائم الإبادة في القرن الحالي.
لقد عانى أغلب الأحرار والشرفاء في العالم من شعور عميق بالعجز وقلة الحيلة، وهم يشاهدون وقائع الإبادة بأم أعينهم دون أن يمتلكوا القدرة على إيقافها. لكن باستطاعة كل إنسان في هذا العالم أن يخوض معركة الحفاظ على ذاكرة الإبادة من النسيان، وهذا أقل ما يمكن أن نفعله كي نستطيع النظر في وجوهنا في المرآة بضمير مرتاح.
